. بنعيسى احسينات
يعرف المغرب نوعان من التعليم الابتدائي الأساسي بالأقسام، يعملان بنفس المنهاج: نوع يعرف بالأقسام العادية حيث يدرس كل مستوى من المستويات في قسم واحد تحت إمرة مدرس واحد. وينتشر هذا النوع في المدن وفي بعض القرى القريبة من المدن. ونوع يعرف بالأقسام المشتركة أو الأقسام المتعددة المستويات الذي يشكل ظاهرة سلبية في تعليمنا، حيث يدرس أكثر من مستوى في قسم واحد (من مستويين إلى ست مستويات )، تحت مسئولية مدرس واحد. وينتشر هذا النوع في البوادي وبعض القرى النائية بشكل يتجه إلى التعميم، بحيث أن هذه الظاهرة التي كانت عابرة بدأت تتعمم في البوادي المغربية بشكل ملفت جدا، تحت ضغوطات الحاجة والإكراهات السوسيواقتصادية وغياب استراتيجية واضحة للتقليل منها أو القضاء عليها أو تقنينها وتنظيمها.
ترتبط ظاهرة الأقسام المشتركة، وبالأحر، ظاهرة الأقسام المتعددة المستويات بالتعليم بالوسط القروي نتيجة سببين أساسيين أملتهما ظروف عارضة، تتجلى في تقريب التعليم من المستفيدين وتعميمه، من جهة، وتقليص تكلفته إلى أدنى حد ممكن، من جهة أخرى، دون أن ننسى الأسباب الأخرى المتمثلة في الهجرة القروية وقلة عدد الأطر والمدرسين مقارنة بعدد المتمدرسين وقلة الحجرات الدراسية، وكذا الموقف السلبي من التمدرس ( خيبة أمل الآباء من استفحال البطالة وعدم تكيفه مع الوسط القروي )، وسوء توطين بعض الوحدات المدرسية لتلبية رغبة بعض النافذين في القبيلة، والبحث الغير المدروس عن أراض من قبل الوزارة التي تبحث عنها بدون مقابل(بناء مدراس في أمكنة غير مناسبة في الغالب ).
إلا أن المسار الذي عرفته الظاهرة، بحكم عوامل ذاتية وموضوعية، حولت ما هو عارض إلى ثابت وما هو عابر إلى دائم. فعوض أن تزول أو تنقص على الأقل، أخذت تمتد وتتوسع. وهذا ما تؤكده الإحصائيات الرسمية المتوفرة عن حجم تنامي الظاهرة سنة بعد سنة، والتي أدهشت من اعتبرها سابقا مجرد ظاهرة عابرة، فهي لا تستحق الاهتمام، إذ تم التعامل معها بشكل محتشم وخجول في بداية الأمر ولا يزال، باستثناء كتيب " الدليل العملي للأقسام المشتركة " الذي أصدرته الوزارة في التسعينات، وهو لا يسمن ولا يغني من جوع، بالإضافة إلى بعض المحاولات الفردية الضعيفة هنا وهناك. مما أدى بالمدرسين، وهم عزل من حيث المعرفة الكافية والتكوين الملائم والتجربة الضرورية، إلى محاولة التكيف مع هذه الظاهرة كواقع ثابت ومستقر، مزودين بسلاح واحد، وهو فعل " تصرّف ".
فالمعلومات المتوفرة عن الأقسام المتعددة المستويات داخل نظامنا التعليمي، ضئيلة وناقصة، لا تكفي لتكوين صورة موضوعية عن الظاهرة. والوسط القروي الذي ينتشر فيه بقوة، هذا النوع من التعليم يحتاج إلى البحث والتمحيص عن طريق التحليل والتفكيك. فكثير من الأسئلة يتوقف على الإجابة عنها فهم الظاهرة، في إطار نسقها السوسيوثقافي اقتصادي اجتماعي.
يبقى أن نتساءل عن معني القسم المشترك أو القسم المتعدد المستويات؟
القسم المشترك أو القسم المتعدد المستويات هو جمع بين مستويين دراسيين أو أكثر، في حجرة واحدة، وفي وقت واحد، وتحت رعاية مدرس واحد، علما أن المستويين متباينين على المستوى العمري والعقلي والمعرفي للمتعلمين، متباينان على مستوى المقررات الدراسية، ومن حيث الكتب والوسائل، مشتركان في الغلاف الزمني المخصص للمادة الدراسية الواحدة.
إن ظاهرة الأقسام المتعددة المستويات، تحتاج أساسا إلى التعريف بها، دون خجل، على أوسع نطاق، مع إبراز سلبياتها وإيجابيتها، وذلك بالتخطيط لها والقيام بالإسقاطات التي يفرضها استفحالها وتطورها، والعمل على التقليص منها وحصرها قدر الإمكان في أضيق مجال. ثم وضع البرامج الخاصة لها، مع مراعاة التدرج في التعلم وفق ما تفرضه البيداغوجية الفارقية التي تهتم بالسيرورات الذهنية للمتعلم، حيث تعمل على تشغيل إطار مرن يتم فيه توضيح التعلم بشكل كاف، وتنويعه لكي يتمكن المتعلمون من التعلم كل حسب مساره الخاص في امتلاك المعارف والمهارات والمواقف.
فإذا كان التعليم بالوسط القروي وضمنه الأقسام المتعددة المستويات، يرمي إلى تحقيق غايات السياسة التربوية الكبرى التي وردت في التوجيهات الرسمية لوزارة التربية الوطنية، بمقدمة " الدليل العملي للأقسام المشتركة "، بحيث جاء فيها : " إن ظاهرة الأقسام المشتركة، وإن كانت تطرح بعض الصعوبات على مستوى التعامل المنهجي، فهي تجسد العناية التي توليها الدولة لضمان حق التمدرس للجميع، وتقريب المدرسة من روادها بالقرية على قلتهم أحيانا، بسبب التشتت السكاني ". فهل الممارسة التربوية في الميدان، منسجمة فعلا مع هذه الغايات النظرية أم العكس؟
لقد سبق أن تحدثت في موضوع سابق نشر ونقل في عدد من المواقع الإليكترونية " تحت عنوان " التربية والتعليم بالعالم القروي في المغرب من الاختلالات القاتلة إلى البدائل المرغوب فيها "، عن مشروع المركبات التعليمية التربوية، أي بناء قرى تربوية تعليمية في أمكنة مناسبة تخضع لمقاييس جد دقيقة، تعتمد أساسا على الكثافة السكانية وشبكة المواصلات وسهولة تحركها، حيث تستفيد منه جماعة أو جماعتين أو مجموعة من الجماعات القروية، حسب عدد السكان وقوة الإنجاب بها. وهي عبارة عن مدارس ابتدائية وإعدادية وثانوية وتكوين مهني بداخلياتها( الإيواء للذكور والإناث ) وضيعتها التطبيقية ( الحقول الزراعية حسب طبيعة المنطقة)، وسكنى المدرسين والإداريين ودار الطالبة ( إيواء الإناث)، إلى جانب مرافق أخرى جماعية وإدارية وصحية وخدماتية وتجارية...
هذه العملية ستجعل حدا للاختلالات التي يعيشها التعليم بالوسط القروي، حيث تشجع على التمدرس بشكل كامل وسليم، وخصوصا تمدرس الفتاة القروية، وتقضي على الهذر المدرسي في صفوف التلاميذ القرويين الذين يعانون من ضغط الظروف القاسية ومتطلبات الأسرة، كما تقضي على ظاهرة الأقسام المشتركة أو الأقسام متعددة المستويات. كما تعيد الثقة إلى دور المدرسة ودور التعليم بالعالم القروي، وتوفر للدولة ملايير من الدراهم، وتحقق الجودة والمردودية المطلوبتين، وتساهم في تنمية البلاد وتقدمه.
فزرع مدرسة في قرية نائية في الجبل، معزولة عن العالم، لا يعني تقريب التعليم من المواطنين، وليس تعيين مدرس أو مدرسة في أقصي البوادي التي تعيش عزلة قاسية على جميع الأصعدة، هو المساهمة في تعليم أبنائهم وتقريب الحضارة إليهم، بقدر ما نقتل في هذا المدرس أو المدرسة الضمير المهني وروح المبادرة، ونهيئ لهما الظروف لنسيان ما تعلمهما وما اختبراه، ويستسلما للواقع الجديد الذي كله تخلف وحياة بدائية، فيخضعا في أحسن الأحوال، لمقولة "من عاشر قوما أربعين يوما أصبح منهم"، إن لم يصابا بخلل، ويقعا ضحية الاضطرابات النفسية والعقلية، كما هو الشأن بالنسبة لكثير من المدرسين والمدرسات في العالم القروي، خصوصا في المناطق النائية. لا يمكن أن ننتظر من مدرسة أو مدرس يقاسي من ظروف الطبيعة القاسية وظروف العيش الشحيحة وظروف العمل الغير الملائمة (التدريس بالأقسام المشتركة )، بالإضافة إلى الاحتقار والإهمال باعتباره رقما يملأ فراغا ما فقط، أن يكون صالحا مجدا ومخلصا في عمله، محبا لمهنته وتلامذته. فالوطن الذي يقسو على رجاله ونسائه يبادله هؤلاء الكراهية واللامبالاة والتفكير في الهجرة والرحيل عند أول فرصة، والوطن الذي لا يحترم ولا يقدر رجال ونساء التعليم محكوم عليه بالجمود والانحطاط لا محالة.
إن ظاهرة الأقسام المتعددة المستويات، باعتبارها ظاهرة تربوية مركبة ومعقدة، تطرح صعوبات ومشاكل منهجية سواء على مستوى التناول النظري أو على مستوى الممارسة في الميدان، ولا يمكن التقليل من تأثير تلك الصعوبات أو تجاوزها، إلا بتحليل الظاهرة وتفكيك مكوناتها في إطار مقاربة نسقية وتصور شمولي للظاهرة، يضعها تقاطع بين أبعاد متعددة: اجتماعية، ثقافية، سيكواجتماعية، بيداغوجية، ديداكتيكية...
فما العمل أمام كل هذه الصعوبات التي تتحطم فوقها كل المشاريع الطموحة التي تصوغها، نظريا، مخيلات المهتمين والممارسين بالحقل التربوي التعليمي، اعتمادا على الأقسام المتعددة المستويات ؟
إننا أمام وضعية، يتفاعل ضمنها مدرس وتلاميذ من خلال محتويات تروم تحقيق كفايات من خلال أهداف محددة، بطرق ووسائل معينة. فما السبيل إلى إدماج هذه الوضعية في منظومة التكوين لإعطائها ما تستحق من عناية خاصة، بعد أن فاجأت الجميع بتناميها المتواصل ؟ وكيف يمكن لهذا القسم أن يؤدي الوظيفة المنتظرة منه، وبالشكل المطلوب على صعيد الممارسة الميدانية ؟
بالإضافة إلى ما قلناه عن دراسة الظاهرة في إطار نسقها السوسيوثقافي إقتصادي، نظريا وميدانيا، لابد من توفر الشروط التالية:
1. لابد من إعادة صياغة المقررات الدراسية وفق متطلبات القسم متعدد المستويات.
2. تكوين وإعادة التكوين، واعتماد خطة محكمة للتكوين المستمر بالنسبة لكل من هو مترشح للعمل بهذا القسم.
3. ضرورة الأخذ بعين الاعتبار تجانس المستويات المتقاربة عند وضع النظم التربوية.
4. تجاوز الطرائق الكلاسيكية في التواصل، والاعتماد على الطرق الفعالة
5. اعتماد مبدأ التربية الداعمة.
6. إعطاء المدرس هامشا أوسع للاجتهاد والمبادرة الخاصة، واتخاذ ما يراه مناسبا من قرارات.
7. التخلي عن النمط التقليدي للمراقبة التربوية.
8. تمتيع مدرسي هذه الأقسام بمنح تحفيزية تشجيعا لهم على التدريس بها.
بما أن القضاء جذريا على هذه الظاهرة، ضمن الشروط الراهنة، هو أمر في حكم المستحيل، وفي انتظار الإصلاحات المرتقبة في هذا الشأن، فإن مجهودات المدرس هي المعول عليها دون سواها، في الرفع من مردودية العمل بهذه الأقسام، حسب الإمكانيات المتاحة، باعتباره المعني الأول بالظاهرة من خلال تعامله اليومي معها.
وعلى الرغم من أن القسم المتعدد المستويات، لم يعد يمثل ذلك الشبح الذي يخيف المدرس ويزعجه سابقا، لكونه أصبح اليوم يمتلك القدرة على إدارة هذا النوع من الأقسام بحكم تراكم التجارب وتطور الاهتمام بالموضوع، فإن ذلك لا يزال، في نظرنا، غير كاف لتجاوز جميع الصعوبات والعراقيل التي يعاني منها مدرس الأقسام المتعددة المستويات، مما يفرض تضافر المزيد من الجهود لإعطاء هذا الموضوع ما يستحق من عناية، وبالتالي العمل على احتواء جميع المشاكل المترتبة عن مزاولة الفعل التربوي داخل هذا النوع من الأقسام التي تفتقر إلى بنيات في المستوى المطلوب تساعد على تذويب المشاكل، وتحتاج إلى تجهيزات ووسائل ومعينات، تدعم المجهودات المبذولة في المجال التربوي، المنهجي والديداكتيكي، بعد تحقيق الشروط السابقة الذكر.
فإصلاح المنظومة التربوية التعليمية الحقيقية تعتمد أساسا على الوعي الجريء ينبع من قرار سياسي ثقافي إنساني يفوق عمقا وجوهرا الإصلاح الاقتصادي الإداري المحض الضيق. كما أن إصلاح الأخلاق الوظيفية لا يتم بمجرد رفع الرواتب ولا حتى بمجرد تطبيق نظام صارم من العقوبات والمحاسبة على الرغم من حتمية وبداهة هاتين الناحيتين في قطاع أي عمل، إلا أن الأهم منهما هو احترام التميز الفردي والرضا على مكان العمل وإفساح المجال للإبداع والابتكار ومكافأة وتقدير المتفوقين عن طريق إفساح المجال لتحقيق الذات التي تتم من خلال اكتشاف البعد الأخلاقي الجوهري في الطبيعة البشرية، وإعطاء هذا البعد الاهتمام والمكانة المطلوبين، مما يجعل الإنسان يتميز ويتفوق بشكل لا يضاهى، لتمتعه بأخلاقيات عالية تجاه نفسه وتجاه وطنه وتجاه واجباته وتجاه الآخرين.